uri:/?q=ar/archive//5022 filename=index.html@q=ar%2Farchive%2F%2F5022.html page=archive//5022 Fragments de mémoire | Mémoires de guerre

Vous êtes ici

Fragments de mémoire

Author: 
BIAGINI Margherita
Texte recueilli par Patrizia Gabrielli
Texte établi, présenté et annoté par Patrizia Gabrielli

شَذَرات من الذاكرة لمارجريت بياجيني1

كنا في شهر يُوليو/تموز من عام 1944، وكان النازيون قد انسحبوا إلى شمال المدينة2 بعدما دمروا الجسور الواقعة فوق نهر الآرنو. وكان الحلفاء المتمركزون في سيرتوزا يقذفون بطلقات مدفعية بشكل مستمر وغير مكترثين بالمكان الذي تسقط فيه هذه القذائف التي تتساقط بشكل عشوائيّ للغاية وتصيب السكان مُخَلفة عشرات الضحايا.

انقطعت المُؤَن في المنازل منذ عدة أيام، وكنّا لا نتناول إلا القليل من الماء الذي كنا نستقيه من بئر مجاور، وذلك بعد انتظار دورنا في طابور لا نهاية له.

كان الجوع قد أصبح رفيقاً لنا وخيّم الخوف على حياتنا، والزمان والمكان قد حدّدا وجودنا. وكانت الأيام تمر ببطء خانق ونحن ننتظر تحرير البلاد. وبسبب كل المخاطر، كانت تحركاتنا وتنقلاتنا قد انحصرت على التجول في المنزل وعلى قطع مسافات قصيرة. وكنا قد توقفنا عن اللعب وكان الجوع قد استنفذ طيشنا.

في صباح ذلك اليوم قيل لنا بأنّه لو ذهبنا إلى السيد زوليمو، وهو فلاح في جالوتسو3، لكان بالإمكان الحصول على كيلوغرام واحد من الخبز، و لكن الطريق المؤدية إليه كانت هي نفسها الطريق التي توصل إلى شرتوزا و لهذا يتوجب علينا الأخذ بعين الاعتبار القذائف المدفعية التي يطلقها الحلفاء. لقد كانت المهمّة محفوفة بالمخاطر ولكن لم يكن لدينا خيار آخر . إني مازلت أتذكر أخي الكبير مبتهجا حين كان يتخيل أنه بإمكانه أخيرا الأكل بشهية.

وعلى الفور عزم أخي على الذهاب إلى السيد زوليمو وقال لنا وهو يمزح بأنّه سيمشي بشكل متعرج لتفادي قذائف المدافع. إلا أنّ والدتي لم تسمح له بذلك و أقرّت بأن من واجبها أن تذهب هي بدل ابنها.

وقبل أن تخرج أوصتني بأختي و بأخي الصغيرين، وكنت آنذاك في الثانية عشرة من عمري، ومن ثمّ راحت وهي تَعِدُنا بأنها ستجلب لنا الخبز لعشاء تلك الليلة.

كان ذلك اليوم يوما صيفيا والسماء صافية وصاحية إلى درجة أنه بمجرد النظر إليها كنّا نكاد ننسى ذلك الرعب الذي كان يُخيّم علينا.

كنت أغنّي لأخي الصغير أغنية الأطفال : "ارقدا يا فخذي الدجاج الصغيرين..."4. في المطبخ، لم يعُد هناك تلك الرائحة التي اعتدنا عليها وذلك لأننا لم نعد نطبخ فيه منذ مدة. وتابعتُ : "...لأن أبي عاد من روما...". كنت أغني وأنا متوترة الأعصاب وقلقة دون معرفة السبب. وأكملتُ : "...أحضر الوالد لكما تاجا جميلا". ومن ثم واصلت الغناء وأنا أداعب خدّ أخي الصغير. في تلك اللحظة كان قد انتابني اضطراب داخليّ حدّثني بحدس ما. وكي أُهَدّىء من روعي وقفت أمام النافدة ولم أنظر إلا إلى السماء.

بعد فترة وجيزة، سمعت صراخا و أصواتا ثائرة. أدرت رأسي و رأيت رجالا يحملون نقّالة كانت أمي قد استلقيت عليها. وكانوا يصرخون "هيا بسرعة.. هيا بسرعة" وهم يتجهون نحو ما يشبه المشفى الصغير الذي أُعِدّ خِصّيصا لاستقبال الكثير من الجرحى. كانت أمي قد أصيبت على ما يبدو بشظايا قنبلة يدوية.

صرختُ وصرختُ كثيرا ورأيت أمي التي كانت تبكي إذ كانت تغطي وجهها بغطاء لكي لا نراها.

كانت الحرب قد انتهت بالنسبة للذين كانوا يسكنون في الجهة الأخرى من نهر الآرنو. كان جيش التحرير والفرقة الخامسة للجيش الأمريكي قد حرّرا تلك المنطقة من المدينة بعد أن دفعا الألمان نحو الشمال5.

لقد خرجنا من هذا المكان الذي اختبأنا فيه. غادرناه بنفس الفرحة التي يشعر بها من يُبصر النور بغتة بعد أن مكث طويلا مكان شديد الظلمة.

وفي ذلك اليوم بدت لي الشمس شديدة الحرارة وأكثر تألقا وكانت السماء بلا غيوم وصافية ومتناسقة بلونها الأزرق الساطع. كنت أشعر وكأني مطوقة بغبار لامع. مشيت من فيا رومانا متجهة نحو بونتي فيكيو مرورا ببياتزا بيتي. رأيت أماكن طفولتي : تلك الشوارع التي كانت قد وسّعت القُطر الذي يحيط بمنزلي خلال سنوات عديدة، حيث كنت أسكن في كوستا سان جورجيو. أمّا فيا جويتشارديني وبورجو سان جاكوبو وفيا داي باردي وفيا بورتا سانتا ماريا، فقد تحولت كلها إلى حفر أنقاض. كانت الأواني والأمتعة والأعمدة تتأرجح وتتمايل، وكانت قد تشبّثت بأجزاء من جدران ظلت قائمة كأنها فم ضخم فاغر حيث كانت تُظهر كل القساوة التي تسببها الحماقة الإنسانية.

وكانت الحرب قد دخلت إلى حياتنا الشخصية بطريقة مجونية مثل مومسة قذرة، وهوت بعنف على الناس والأشياء مُحدثة الدمار والهلاك على الحياة اليومية، ومحت بلحظة واحدة حياتنا التي عشناها وذاكرتنا : فالمكان الذي كانت تدبّ فيه الحياة لم يبق منه الآن إلا الخراب.

وكان الناس، وقد استولى عليهم اليأس ينظرون مذهولين وغير مصدّقين لما يحدث ويتعثرون في ذكرياتهم. وكان الجميع قد ثارت ثائرته، وكل واحد منهم يبحث عن أيّ غرض كان له لمحاولة استرجاع جزء من حياته التي عاشها ومن ذاكرته اللتَيْن سُلِبتا منه.

وشعرت باكتئاب أليم اجتاحني في مواجهة هذا الهلع. لم تعُد الشمس تشعرني بدفئها، وكانت السماء تبدو كالحة. في بداية الأمر بكيت بصمت، ثم انفجرت في البكاء وسالت دموعي بتدفق أزاحت عنّي بعض همومي. وبكيت كثيرا على طفولتي الضائعة.

المرأة النحيلة وكبيرة السنّ هي الّتي مَسَكتني من ذراعي وأعادتني إلى الواقع. كان بإمكاني أن ألمح خصلات من شعرها الأبيض أخفتها تحت وشاحها ذي الألوان الزاهية الذي ربطته تحت ذقنها. كانت عيناها الزرقاوان الصافيتان والبريئتان تحدّقان النّظر إلى نقطة بعيدة المدى. هزتني تلك المرأة قائلة : " هل ترينَ النقطة أنت أيضا يا صغيرتي ؟". سألتها إن كانت تسكن أحد هذه البيوت، لكنها لم تُجبني، وضغطت ثانية بشدّة على ذراعي وأومأت إليّ بإشارة برأسها بدت لي وكأنها تقول نعم كنت أسكنها. ومن ثم قلت لها : "ما هو الشيء الذي ينبغي عليّ رؤيته ؟".

بعد ذلك مدّت يدها نحو كومة من الأنقاض و صاحت و هي مضطربة : "نعم إنّه لي، عرفته". لقد تحقّقتْ من ألبوم صور، كنت أنظر إليه أنا أيضا في نفس اللحظة التي رأته فيها. كان هذا الألبوم هو من أحد الألبومات التي تنتمي للطراز الفلورنسي ذي لون أبيض مائل إلى الصُّفرة ومزركش بكثير من الزنبق الأحمر و الذهب. تساءلتُ : "آه ! كم من ذكريات كانت مدفونة في داخل هذا الألبوم ؟".

انطلقت المرأة إلى الأمام باندفاع غير متوقع نظرا لكبر سنّها وذلك بهدف الوصول إلى الكنز الضخم الذي عثرت عليه. إلا أن شابا أوقفها واقترح عليها أن يذهب مكانها لاستعادة ذلك الكنز. اقترب الشاب من الكنز وهو يحجل على حطام تلك المنطقة. رأيت حينها قوامه النحيل وخياله الأسود يبتعدان ويتجاوزان هذا المكان. وانحنى الشاب ومدّ يده لالتقاط ذلك الألبوم. عندها صاحت المرأة بإعجاب وهي تقول له : "أحسنت صُنعا".

وبعد لحظات سمعنا هدير انفجار يرافقه حريق، وبالكاد كان لدينا متسع من الوقت لرؤية الشاب وهو يقفز عاليا ويسقط على الأرض وكأنه نيزك نزل من السماء. أما نحن فكنا نركض لنختبىء في مكان ما. مسكين هذا الشاب، لقد مشى على لغم ألماني لم يكن قد انفجر بعد. اختبأت أنا والمرأة التي ترافقني وأشخاص آخرون في مدخل بيت. ودون أن أنتبه للأمر، أخذت بالصراخ وكأني إنسان آليّ مُسَيّر، متسائلة: "لِمَ كل هذا؟ لأي سبب ؟". في تلك اللحظة أخذتني امرأة بين ذراعيها دون أن تتلفّظ بكلمة وداعبت رأسي لتُطيّب خاطري. فكانت تلك المداعبات هي التي أحيت فيّ بريق الأمل.



  • 1 ـ ولدت مارجريت بياجيني بمدينة فلورنس عام 1931. حصلت على شهادة من المدرسة الإعدادية. كتبت مذكراتها بين عامي 1997 و 2000. وصل النص المطبوع إلى أرشيف دياريستكو الوطني في مدينة بييفي سانتو ستفانو في 14 ديسمبر/كانون الأول 2000.
  • 2ـ زرعت الجيوش الألمانية الألغام في جسور نهر الآرنو في 31 يُوليو/تموز عام 1944.الجسر الوحيد الذي لم توضع فيه ألغام هو جسر فاجيو. وحسب الأوامر الدقيقة للغاية من الحكومة الألمانية، يجب تدمير كل ما يمكن أن يسمح بعرقلة ولوج الأحلاف من بيوت وطرق وجسور.
  • 3 جالوتسو هي منطقة تقع في ضواحي مدينة فلورنس.
  • 4 أغنية إيطالية معروفة جدا تُغنّى للأطفال لتنويمهم.
  • 5 تم تحرير أحياء "ألترا رنو" في الرابع من شهر أغُسْطُس/آب .
Archive Number:
  • Numéro: XX005
  • Lieu: Archivio Diaristico Nazionale di Pieve Santo Stefano, Arezzo, Toscane
Photos illustrant le témoignage
X
Saisissez votre nom d'utilisateur pour Mémoires de guerre.
Saisissez le mot de passe correspondant à votre nom d'utilisateur.
Image CAPTCHA
Enter the characters shown in the image.
En cours de chargement